فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال سيد قطب:

سورة الماعون:
هذه السورة مكية في بعض الروايات، ومكية مدنية في بعض الروايات الثلاث الآيات الأولى مكية والباقيات مدنية وهذه الأخيرة هي الأرجح. وإن كانت السورة كلها وحدة متماسكة، ذات اتجاه واحد، لتقرير حقيقة كلية من حقائق هذه العقيدة، مما يكاد يميل بنا إلى اعتبارها مدنية كلها، إذ إن الموضوع التي تعالجه هو من موضوعات القرآن المدني- وهو في جملته يمت إلى النفاق والرياء مما لم يكن معروفا في الجماعة المسلمة في مكة. ولكن قبول الروايات القائلة بأنها مكية مدنية لا يمتنع لاحتمال تنزيل الآيات الأربع الأخيرة في المدينة وإلحاقها بالآيات الثلاث الأولى لمناسبة التشابه والاتصال في الموضوع.. وحسبنا هذا لنخلص إلى موضوع السورة وإلى الحقيقة الكبيرة التي تعالجها..
إن هذه السورة الصغيرة ذات الآيات السبع القصيرة تعالج حقيقة ضخمة تكاد تبدل المقهوم السائد للإيمان والكفر تبديلا كاملا. فوق ما تطلع به على النفس من حقيقة باهرة لطبيعة هذه العقيدة، وللخير الهائل العظيم المكنون فيها لهذه البشرية، وللرحمة السابغة التي أرادها الله للبشر وهو يبعث إليهم بهذه الرسالة الأخيرة..
إن هذا الدين ليس دين مظاهر وطقوس؛ ولا تغني فيه مظاهر العبادات والشعائر، ما لم تكن صادرة عن إخلاص لله وتجرد، مؤدية بسبب هذا الإخلاص إلى آثار في القلب تدفع إلى العمل الصالح، وتتمثل في سلوك تصلح به حياة الناس في هذه الأرض وترقى.
كذلك ليس هذا الدين أجزاء وتفاريق موزعة منفصلة، يؤدي منها الإنسان ما يشاء، ويدع منها ما يشاء.. إنما هو منهج متكامل، تتعاون عباداته وشعائره، وتكاليفه الفردية والاجتماعية، حيث تنتهي كلها إلى غاية تعودكلها على البشر.. غاية تتطهر معها القلوب، وتصلح للحياة، ويتعاون الناس ويتكافلون في الخير والصلاح والنماء.. وتتمثل فيها رحمة الله السابغة بالعباد.
ولقد يقول الإنسان بلسانه: إنه مسلم وإنه مصدق بهذا الدين وقضاياه. وقد يصلي، وقد يؤدي شعائر أخرى غير الصلاة ولكن حقيقة الإيمان وحقيقة التصديق بالدين تظل بعيدة عنه ويظل بعيدا عنها، لأن لهذه الحقيقة علامات تدل على وجودها وتحققها. وما لم توجد هذه العلامات فلا إيمان ولا تصديق مهما قال اللسان، ومهما تعبد الإنسان!
إن حقيقة الإيمان حين تستقر في القلب تتحرك من فورها كما قلنا في سورة العصر لكي تحقق ذاتها في عمل صالح. فإذا لم تتخذ هذه الحركة فهذا دليل على عدم وجودها أصلا. وهذا ما تقرره هذه السورة نصا..
{أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين}..
إنها تبدأ بهذا الاستفهام الذي يوجه كل من تتأتى منه الرؤية ليرى: {أرأيت الذي يكذب بالدين} وينتظر من يسمع هذا الاستفهام ليرى إلى أين تتجه الإشارة وإلى من تتجه؟ ومن هو هذا الذي يكذب بالدين، والذي يقرر القرآن أنه يكذب بالدين.. وإذا الجواب: {فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين}!
وقد تكون هذه مفاجأة بالقياس إلى تعريف الإيمان التقليدي.. ولكن هذا هو لباب الأمر وحقيقته.. إن الذي يكذب بالدين هو الذي يدفع اليتيم دفعا بعنف- أي الذي يهين اليتيم ويؤذيه. والذي لا يحض على طعام المسكين ولا يوصي برعايته. فلو صدق بالدين حقا، ولو استقرت حقيقة التصديق في قلبه ما كان ليدع اليتيم، وما كان ليقعد عن الحض على طعام المسكين.
إن حقيقة التصديق بالدين ليست كلمة تقال باللسان؛ إنما هي تحول في القلب يدفعه إلى الخير والبر بإخوانه في البشرية، المحتاجين إلى الرعاية والحماية. والله لا يريد من الناس كلمات. إنما يريد منهم معها أعمالا تصدقها، وإلا فهي هباء، لا وزن لها عنده ولا اعتبار.
وليس أصرح من هذه الآيات الثلاث في تقرير هذه الحقيقة التي تمثل روح هذه العقيدة وطبيعة هذا الدين أصدق تمثيل.
ولا نحب أن ندخل هنا في جدل فقهي حول حدود الإيمان وحدود الإسلام. فتلك الحدود الفقهية إنما تقوم عليها المعاملات الشرعية. فأما هنا فالسورة تقرر حقيقة الأمر في اعتبار الله وميزانه. وهذا أمر آخر غير الظواهر التي تقوم عليها المعاملات!!
ثم يرتب على هذه الحقيقة الأولى صورة تطبيقية من صورها:
فويل للمصلين، الذين هم عن صلاتهم ساهون، والذين هم يراؤون ويمنعون الماعون إنه دعاء أو وعيد بالهلاك للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون.. فمن هم هؤلاء الذين هم عن صلاتهم ساهون!
إنهم {الذين يراءون ويمنعون الماعون}..
إنهم أولئك الذين يصلون، ولكنهم لا يقيمون الصلاة. الذين يؤدون حركات الصلاة، وينطقون بأدعيتها، ولكن قلوبهم لا تعيش معها، ولا تعيش بها، وأرواحهم لا تستحضر حقيقة الصلاة وحقيقة ما فيها من قراءات ودعوات وتسبيحات. إنهم يصلون رياء للناس لا إخلاصا لله. ومن ثم هم ساهون عن صلاتهم وهم يؤدونها.ساهون عنها لم يقيموها. والمطلوب هو إقامة الصلاة لا مجرد أدائها. وإقامتها لا تكون إلا باستحضار حقيقتها والقيام لله وحده بها.
ومن هنا لا تنشئ الصلاة آثارها في نفوس هؤلاء المصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون. فهم يمنعون الماعون. يمنعون المعونة والبر والخير عن إخوانهم في البشرية. يمنعون الماعون عن عباد الله. ولو كانوا يقيمون الصلاة حقا لله ما منعوا العون عن عباده، فهذا هو محك العبادة الصادقة المقبولة عند الله..
وهكذا نجد أنفسنا مرة أخرى أمام حقيقة هذه العقيدة، وأمام طبيعة هذا الدين. ونجد نصا قرآنيا ينذر مصلين بالويل. لأنهم لم يقيموا الصلاة حقا. إنما أدوا حركات لا روح فيها. ولم يتجردوا لله فيها. إنما أدوها رياء. ولم تترك الصلاة أثرها في قلوبهم وأعمالهم فهي إذن هباء. بل هي إذن معصية تنتظر سوء الجزاء!
وننظر من وراء هذه وتلك إلى حقيقة ما يريده الله من العباد، حين يبعث إليهم برسالاته ليؤمنوا به وليعبدوه... إنه لا يريد منهم شيئا لذاته سبحانه- فهو الغني- إنما يريد صلاحهم هم أنفسهم. يريد الخير لهم. يريد طهارة قلوبهم ويريد سعادة حياتهم. يريد لهم حياة رفيعة قائمة على الشعور النظيف، والتكافل الجميل، والأريحية الكريمة والحب والإخاء ونظافة القلب والسلوك.
فأين تذهب البشرية بعيدا عن هذا الخير؟ وهذه الرحمة؟ وهذا المرتقى الجميل الرفيع الكريم؟ أين تذهب لتخبط في متاهات الجاهلية المظلمة النكدة وأمامها هذا النور في مفرق الطريق؟. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بالدين (1)}
الذي يكذب بالدين، فيه اسم الموصول مبهم بينه ما بعده، وهو الذي يدع اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين.
وقد بين تعالى في آية أخرى، أن الإيمان الدين يحمل صاحبه على إطعام اليتيم والمسكين في قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8].
ثم قال مبينًا الدافع على إطعامهم إياهم: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان: 9-10].
وهنا سؤال: وهو لم خص المكذبين بيوم الدين عمن يرتكب هذين الأمرين دع اليتيم، وهو دفعه وزجره، وعدم الحض على إطعام المسكين، وبالتالي عدم إطعامه هو من عنده؟
والجواب: أنهما نموذجان، ومثالان فقط.
والأول منهما: مثال للفعل القبيح.
والثاني: مثال للترك المذموم.
ولأنهما عملان إن لم يكونا إسلاميين فهما إنسانيان، قبل كل شيء.
وفي الآية الأخرى توجيه للجواب، وهو أن المؤمن يخاف من الله يومًا عبوسًا، وعبر بالعبوس في حق يوم القيامة، لئلا يعبس في وجه اليتيم والمسكين لضعفهما.
ومن جانب آخر فإن كان التكذيب بيوم الدين، يحمل على كل الموبقات، إلا أنها قد تجد ما يمنع منها، كالقتل والزنى والخمر لتعلق حق الآخرين، وكذلك السرقة والنهب.
أما إيذاء اليتيم وضياع المسكين، فليس هناك من يدفع عنه، ولا يمنع إيذاء هؤلاء عنهما، وليس لديهما الجزاء الذي ينتظره أولئك منهم على الإحسان إليهم.
وجبلت النفوس على ألا تبدل إلا بعوض، ولا تكف إلا عن خوف، فالخوف مأمون من جانبي اليتيم والمسكين، والجزاء غير مأمول منهما، فلم يبق دافع للإحسان إليهما، ولا رادع عن الإساءة لهما إلا الإيمان بيوم الدين والجزاء، فيحاسب الإنسان على مثقال الذرة من الخير.
وقيل: إن دع اليتيم: هو طرده عن حقه وعدم الحض على طعام المسكين: عدم إخراج الزكاة.
ولكن في الآية ما يمنع ذلك، لأن الزكاة إنما يطالب بها المؤمن والسياق فيمكن يكذب بيوم الدين فلا زكاة.
{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)}
اختلف في المصلين الذين توجه إليهم الوعيد بالويل هنا.
والجمهور: على أنهم الذين يسهون عن أدائها، ويتساهلون في أمر المحافظة عليها، وقيل: عن الخشوع فيها وتدبر معانيها، ولكن الصحيح أنه الأول.
وقد جاء عن عطاء وعن ابن عباس أنهما قالا: الحمد لله الذي قال عن صلاتهم، ولم يقل في صلاتهم، كما أن السهو في الصلاة لم يسلم منه أحد، حتى أنه وقع من النَّبي صلى الله عليه وسلم لما سلم من ركعتين في الظهر كما هو معلوم من حديث ذي اليدين، وقال: «إني لا أنسى، ولكني أنسى لأسنَّ» فكيف ينسيه الله ليسنَ للناس أحكام السهو، ويقع الناس في السهو بدون عمد منهم.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه».
وقد عقد الفقهاء باب سجود السهو تصحيحًا لذلك.
لذلك بقي من المراد بالذين هم عن صلاتهم ساهون.
قيل: نزلت في أشخاص بأعيانهم، وقيل: في كل من أخَّر الصلاة عن أول وقتها، أو عن وقتها كله، إلى غير ذلك، أو عن أدائها في المساجد وفي الجماعة، وقيل: في المنافقين.
وفي السورة تفسير صريح لهؤلاء، وهو قوله تعالى: {الذين هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الماعون} [الماعون: 6-7].
والمرائي في صلاته قد يكون منافقًا، وقد يكون غير منافق.
فالرياء أعم من جهة، والنفاق أعم من جهة أخرى، أي قد يرائي في عمل ما، ويكون مؤمنًا بالبعث والجزاء وبكل أركان الإيمان، ولا يرائي في عمل آخر، بل يكون مخلصًا فيه كل الإخلاص.
والمنافق دائمًا ظاهره مخالف لباطنه في كل شيء، لا في الصلاة فقط.
ولكن جاء النص: بأن المراءاة في الصلاة، من أعمال المنافقين.
وجاء النص أيضًا. بأن منع الماعون من طبيعة الإنسان إلا المصلين، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الإنسان خلق هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعًا إِلاَّ المصلين} [المعارج: 19-22].
وقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، بيان السهو عنها وإضاعتها عند قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيًّا إِلاَّ مَن تَابَ} [مريم: 59-60] الآية.
وبين في آخر المبحث تحت عنوان: مسألة في حكم تاركي الصلاة جحدًا أو كسلًا. وزاده بيانًا، عند قوله تعالى: {والذين هُمْ على صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون: 9] في دفع إيهام الاضطراب للجمع بين هذه الآية وآية {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر: 42].
وذكر قول الشاعر:
دع المساجد للعباد تسكنها

على ما سنذكره بعد، ثم نبه قائلًا: إذا كان الوعيد عمن يسهو عنها فكيف بمن يتركها؟ اهـ.
وقد تساءل بعض المفسرين عن موجب اقتران هذه الآية بالتي قبلها.
وأجابوا: بأن الكل من دوافع عدم الإيمان بالبعث، ومن موجبات التكذيب بيوم الدين، فهي مع ما قبلها في قوة، فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين، وعن صلاتهم ساهون، فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون.
فجمعهم مع الأول، ونص على وعيده الشديد، وبين وصفًا ولهم، وهو أنهم يمنعون الماعون.
تنبيه:
في هذه السورة، وفي آية {والذين هُمْ على صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون: 9]، التي هي من صفات المؤمنين معادلة كبيرة.
أحداهما: في المنافقين تاركي الصلاة أو مضيعيها.
والأخرى في المؤمنين المحافظين عليها، أي أن الصلاة هي المقياس والحد الفاصل. وعليه قوله صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن ترك الصلاة فقد كفر». أما أثر الصلاة في الإسلام، وعلى الفرد والجماعة، فهي أعظم من أن تذكر.
وقد وجدنا بعض آثارها وهو المراءاة في العمل، أي ازدواج الشخصية والانعزال في منع الماعون، أي لا يمد يد العون ولو باليسير لمجتمعه الذي يعيش فيه، وقد جاءت نصوص صريحة في مهمة الصلاة عاجله وآجله.
ففي العاجل قوله تعالى: {إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشاء والمنكر} [العنكبوت: 45]، ومن الفحشاء: دع اليتيم وعد إطعام المسكين، وفي الدرجة الأولى.
ومنها: كل رذيلة. منكرة، فهي إذن سياج يصونه عن كل رذيلة. وهي عون على كل شديدة، كما قال تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة} [البقرة: 45]، فجعلها قرينة الصبر في التغلب على الصعاب، وهي في الآخرة نور، كما قال تعالى: {يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم} [الحديد: 12]، الآية، مع قوله صلى الله عليه وسلم: «إن أمتي يأتون يوم القيامة غرًا محجلين من أثر الوضوء». وقوله: {وَيَمْنَعُونَ الماعون} [الماعون: 7].
قيل: في الماعون الزكاة لقلتها، والماعون: القليل، والماعون: المال في لغة قريش.
وقيل: هو ما يعين على أي عمل، ومنه الدلو والفأس والإبرة والقدر. ونحو ذلك.
وإذا كان السهو عن الصلاة يحمل على منع الماعون، فإن من يمنع الماعون وهو الآلة أو الإناء يقضي به الحاجة ثم يرد، كما هو بدون نقصان، فلأن يمنع الصدقة أو الزكاة من باب أولى.
ومن هنا: لم يكن المنافق ليزكي ماله ولا يتصدق على محتاج، بل ولا يقرض آخر قرضًا حسنًا. ولذا نجد تفشي الربا في المنافقين أشد وأكثر.
وهنا يأتي مبحثان:
الأول منهما: حكم الرياء وما حده؟
والثاني: حكم العارية.
أما الرياء: فقيل وهو مشتق من الرؤية، والمراد به إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها فيحمد عليها، وقد جاء في الحديث تسميته الشرك الخفي: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الخفي، قالوا: وما الشرك الخفي يا رسول الله؟ قال: الرياء، فإنه أخفى في نفوسكم من دبيب النمل».
وجاء قوله تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أحدا} [الكهف: 110].
وبيان الشرك فيه أنه يعمل العمل مما هو أصلًا لله، كالصلاة أو الصدقة أو الحج، ولكنه يظهره لقصد أن يحمده الناس عليه.
فكأن هذا الجزء منه مشاركة مع الله، حيث أصبح من عمله جزء لطلب الثناء من الناس عليه.
وقد جاء حديث أبي هريرة عند مسلم: يقول الله تعالى: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملًا أشرك معي غيري تركته وشركه».
أما حكم الرياء في العمل، ففي هذا النص دلالة على رد العمل على صاحبه، وتركه له.
فقيل: إنه يكون لا له فيه، ولا عليه منه.
فقيل: لا يخلو من ذم، كما حذر الله تعالى منه بقوله: {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ الناس} [الأنفال: 47].
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من راءى الله به، ومن سمع سمع الله به». رواه مسلم.
والتسميع: هو العمل ليسمع الناس به كما في حديث الوليمة «في اليوم الأول والثاني والثالث سمعة. ومن سمّع سمّع به». فالرياء مرجعه إلى الرؤية، والتسميع مرجعه إلى السماع.
ومعلوم أنها نزلت في قريش يوم بدر، وقد أحبط الله عملهم، وردهم على أعقابهم.
وفي حديث أبي هريرة، وقيل: إنه محبط للأعمال لمسمى الشرك لقوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48].
وأجيب: بأنه يحبط العمل الذي هو فيه فقط، فإن رءاى في الصلاة أحبطها ولا يتعدى إلى الصوم، وإن رءاى في صلاة نافلة لا يتعدى إحباطها إلى صلاة فريضة، وهكذا، قد يبدأ عملًا خالصًا لله، ثم يطرأ عليه شبح الرياء، فهل يسلم له عمله أو يحبطه ما طرأ عليه من الرياء؟
فقالوا: إن كان خاطرًا ودفعه عنه فلا يضره، وإن استرسل معه. فقد رجح أحمد وابن جرير، عدم بطلان العمل نظرًا لسلامة القصد ابتداء.
ودليلهم في ذلك: ما روى أبو داود في مراسيله عن عطاء الخراساني أن رجلًا قال: يا رسول الله، إن بني سلمة كلهم يقاتل، فمنهم من يقاتل للدنيا، ومنهم من يقاتل نجدة، ومنهم من يقاتل ابتغاء وجه الله تعالى قال: «كلهم إذا كان أصل أمره، أن تكون كلمة الله هي العليا».
وذكر عن ابن جرير: أن هذا في العمل الذي يرتبط آخره بأوله، كالصلاة والصيام.
أما ما كان مثل القراءة والعلم. فإنه يلزمه تجديد النية الخالصة لله، أي لأن كل جزء من القراءة، وكل جزء من طلب العلم مستقل بنفسه، فلا يرتبط بما قبله.
وهناك مسألة:
وهي أن العبد يعمل العمل لله خالصًا، ثم يطلع عليه بعض الناس، فيحسنون الثناء عليه فيعجبه ذلك. فلا خوف أنه ليس من الرياء في شيء لما جاء في حديث أبي ذر رضي الله عنه، أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يعمل من الخير يحمده الناس عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: «عاجل بشرى المسلم». رواه مسلم.
وقد ذكر بعض العلماء: أن من كان يعمل عملًا خفيًا، ثم حضر الناس فتركه من أجلهم خشية الرياء، أنه يدخل في الرياء، لأنه يضعف في نفسه أن يخلص النية لله، وفي هذا بُعد ومشقة.
أما منع الماعون وإعطاؤه، وهو العارية كما تقدم.
فإن مبحث العارية في ناحيتين: ما هي العارية.
والثاني: حكمها أواجب أم مباح، وحكم ضمانها مضمونة أم لا؟
أما تعريفها عند الفقهاء: هي إباحة الانتفاع بعين من أعيان المال، مع بقاء عينه.
وقولهم مع بقاء عينه: كالقدر والفأس والإبرة والمنخل، ونحو ذلك، بخلاف ما يكون إتلافه في استعماله، كالشمع للإضاءة، والزيت للدهن، والكحل للاكتحال، ونحو ذلك، مما تنفذ عينه باستعماله، فلا يكون عارية، ولكن يكون قرضًا، والقرض يكون معاوضته بمثله.
أما حكم العارية. فقيل: جائز، وقيل: بل واجب، وقيل: مستحب.
وحكى ابن قدامة الإجماع على استحبابها، ودليل من قال بالوجوب بنص الآية: {وَيَمْنَعُونَ الماعون} [الماعون: 7]، ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه في حق الإبل لما ذكره الزكاة «وأن حقها إعارة دلوها، وإطراق فحلها، ومنحه لبنها، يوم ورودها».
والواقع أن هذا الحديث ذكر فيه ما ليس بعارية قطعًا، مثل طرق الفحل ومنح اللبن، مما يضعف الاستدلال به.
وقد ساق المجد في المنتقى برواية أحمد ولهم.
أما الوعيد في الآية فقالوا: هو منصب على الصفات الثلاث: السهو عن الصلاة، والرياء في العمل، ومنع الماعون جميعًا، ومن اتصف بواحدة فله قدرة من الوعيد بحبسه.
وأقل ما يقال فيها ما جاء في قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى} [المائدة: 2]، والحديث الصحيح في حق الزكاة، لما ذكر صلى الله عليه وسلم الذهب والفضة والإبل والبقر والخيل، وقال: «ولا ينسى حق الله في ظهرها».
ثم سئل عن الحمر، فقال: «لم أجد إلا الآية الشاذة الفاذة: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7]».
وإعارة المتاع إباحة المنفعة وهي خير كثير.
والحديث الآخر: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس».
ونقل الشوكاني عن الكشاف قولا: أنها تكون واجبة عند الاضطرار، وقبيح في غير الضرورة مروءة. اهـ.
والضرورة: مثل الدلو إذا وردت الماء دلو معك، وفي اضطرار إلى الماء.
وقياس الفقهاء: أنه لو تلف شيء بسبب ذلك لضمن المانع.
كما قالوا في الامتناع في بعض الصور: هل هو فعل أو ترك؟ مثل من كان عنده خيط، واحتيج إليه في خياطة جرح إنسان، أو قطنة فمات، فهل يعد ترك إعطاء الخيط مجرد ترك لا يؤاخذ عليه، أو يعتبر فعلًا لأنه تسبب عنه موت إنسان. ومثله منع الدلو ليروي أو يسقي إبله أو يشرب هو؟
والصحيح عندهم: أن الترك في مثل هذه الحالة يؤاخذ الفعل، كما قال صاحب مراقي السعود.
والترك فعل في صحيح المذهب

وهنا ما يشهد له الاستعمال العربي الصحيح، كما قيل في بناء المسجد:
لئن قعدنا والنَّبي يعمل ** لذاك منا العمل المضلل

فسمي القعود عن العمل عملًا مضللًا، فتحصل من هذا أن العارية مستحبة شرعًا ومروءة وعرفًا في حالة الاختيار، وواجبة في حالة الاضطرار، مع ملاحظة أن حالات الاستعارة أغلبها اضطرار، إلاَّ أن حالات الاضطرار تتفاوت ظروفها.
وقد امتدح الله الأنصار بأنهم يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، فالعارية من باب أولى، لأنه ينتفع بها وترد لصاحبها.
وقد امتدح الشاعر القوم بعدم منعهم الماعون، بقوله:
قوم على الإسلام ولما يمنعوا ** ماعونهم ويضيع التهليلا

وإن كان بعض الناس حمل الماعون هنا على الزكاة، ولكن قول الشاعر:
.........................................................قوم على الإسلام، يتضمن إخراجهم الزكاة ضمن إسلامهم، فيكون الباقي امتداد حالهم في خصوص الماعون.
بقي مبحث ضمانها: تختلف الأقوال في ضمان العارية، فبعضهم يعتبرها أمانة، وعليه فلا تكون مضمونة وهذا مذهب الحنفية والمالكية، إذا لم يحصل منه تعد.
وعند الشافعي واحمد: أنها مضمونة، إلا إذا كانت على الوجه المأذون فيه.
كما قالوا في السيف: يستعيره فينكسر في القتال فلا ضمان فيه.
واستدل من قال بضمانها بالحديث العام «على اليد ما أخذت، حتى تؤديه». رواه المجد في المنتقى، وقال: رواه الخمسة إلا النسائي.
وبحديث صفوان بن أمية، أن النبيِّ صلى الله عليه وسلم استعار منه يوم حنين أذرعًا قيل ثلاثين، وقيل ثمانين، وقيل مائة. فقال: أغصبًا يا محمد؟ قال: «بل عارية مضمونة» فقال: فضاع بعضها، فعرض عليه النبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يضمنها له، فقال: «أنا اليوم في الإسلام أرغب». رواه أحمد وأبو داود.
ونص الفقهاء: أن ضمانها بقيمتها يوم تلفت أو بمثلها، إن كانت مثيلة، ويستدل له بما جاء في قصعة حفصة لما ضربتها عائشة فسقطت على الأرض فانكسرت، وانتثر الطعام، فأخذ صلى الله عليه وسلم قصعة عائشة وردها إلى حفصة، وقال: «قصعة بقصعة، وطعام بطعام» أي أن الضمان إما بالمثل إن كان مثليًا، أو بالقيمة إن كان مقوما.
وإذا كانت العارية مضمونة وحكمها الجواز، فللمستعير طلب ردها متى شاء، إلا إذا تعلقت بها مصلحة المستعير، ولا يمكن ردها إلا بمضرة عليه.
قالوا: كمن أعار سفينة وتوسط بها المستعير عرض البحر، فلا يملك المعير ردها لتعذر ذلك وسط البحر.
وقيل: له طلبها، وتكون بالأجرة على المستعير، والأول أرجح.
وكالذي أعار أرضًا للزرع، وقبل أن يستحصد الزرع يطلبها صاحبها، هكذا. والله تعالى أعلم.
حكم من جحد العارية:
إن حديث المرأة المخزومية مشهور، وهو أنها كانت تستعير المتاع وتجحده، فاشتهرت بذلك، ثم إنها سرقت فقطعت في السرقة، لا في جحد المتاع المستعار، وهذا هو الأصح.
لأن السرقة لا تكون إلا على وجه التخفي ومن حرز.
والاستعارة خلاف ذلك، وإنما تدخل في قوله تعالى: {إِنَّ الله يَأمركُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا} [النساء: 58].
وقوله صلى الله عليه وسلم: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه». وحديث: «أدّ الأمَانَة لمن ائتمنك، ولا تخُن من خانَك». رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن.
وهذا مجمل مباحث العارية، وتفصيل فروعها في كتب الفقه أوجزنا منه ما يتعلق بمنع الماعون وعدم جواز منعه، وما يتعلق ببذله، وبالله تعالى التوفيق.
تنبيه:
في هذه السورة بيان منهج علمي يلزم كل باحث، وهو جمع أطراف النصوص وعدم الاقتصار على جزء منه، وذلك في قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ} [الماعون: 4]، وهي أية مستقلة، ولو أخذت وحدها لكانت وعيدًا للمصلين.
كما قال الشاعر الماجن في قوله:
دع المساجد للعباد تسكنها ** وسر إلى خانة الخمار يسقينا

ما قال ربك ويل للألى سكروا ** وإنما قال ويل للمصلينا

ولذا لابد من ضميمة ما بعدها للتفسير والبيان، الذين هم عن صلاتهم ساهون، ثم فسر هذا التفسير أيضًا بقوله: {الذين هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الماعون} [الماعون: 6-7].
ومثل هذه الآية من الحديث، ما جاء عند ابن ماجه ما نصه بسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن مسيرة المسجد تعطلت: فقال النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «من عمر مسيرة المسجد كتب له كفلان من الأجر».
هذا الحديث وإن كان في الزوائد، قال عنه: في إسناده ليث بن أبي سليم ضعيف، إلا أنه نص فيما تمثل له لأن من اقتصر على جوابه صلى الله عليه وسلم اعتبر مسيرة المسجد أفضل، ومن جمع طرفي الحديث عرف المقصود منه.
ويتفرع على هذا ما أخذه مالك رحمه الله في باب الشهادة: أن الشخص لا يحق له أن يشهد على مجرد قول سمعه، إلا إذا استشهدوه عليه، وقالوا: أشهد عليه، أو إلا إذا سمع الحديث من أوله مخافة أن يكون في أوله ما هو مرتبط بآخره، كما لو قال المتكلم للآخر: لي عندك فرس، ولك عندي مائة درهم، فيسمع قوله: لك عندي مائة درهم، ولم يسمع ما قبلها، فإذا شهد على ما سمع كان إضرارًا بالمشهود عليه، وهذه السورة تدل لهذا المأخذ، والله تعالى أعلم. اهـ.